فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء}.
يُعدِّد الحق- تبارك وتعالى- نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها، فالحركة تأتي بالخير للناس، والسكون يأتي بالراحة للمتعَب من الحركة، والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعطي ويتعب إلا بعد راحة، والذي يتحدَّى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار لابد أنْ ينقطع، وأن تُنهَك قواه فلا يستمر.
لذلك يقول تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1- 4].
فكلٌّ من الليل والنهار له مهمة، وكذلك الرجل والمرأة، فإياكم أنْ تخلطوا هذه المهام، وإلا فسدت الحياة وأتعبتكم الأحداث، فقبل الكهرباء ودخول التليفزيون والفيديو المنازل كان يومنا يبدأ في نشاط مع صلاة الفجر، لأننا كنا ننام بعد صلاة العشاء، أما الآن فالحال كما ترى، كنا نستقبل يومنا بحركة سليمة نشطة؛ لأننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام.
والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول: {أَرَأَيْتُمْ} [القصص: 71] يعني: أخبروني ماذا تفعلون {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} [القصص: 71] يعني: طوال حياتكم {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص: 71] والسرمد: الدائم المستمر.
وقال: {بِضِيَاءٍ} [القصص: 71] ولم يقل بنور؛ لأن النور قد يأتي من النجوم، وقد يأتي من القمر، أمّا الضياء وهو نور وأشعة وحرارة، فلا يأتي إلا من الشمس.
لذلك يقول سبحانه: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاءً والقمر نُورًا} [يونس: 5].
وقال: {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص: 71] ولم يقُلْ: مَنْ يأتيكم بضياء ليلفت نظرنا إلى أن هذه المسألة لا يقدر عليها إلا إله، ولا إله إلا الله، وفي الضياء تبصرون الأشياء، وتسيرون على هُدىً، فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب، وبالضياء أعايش الأشياء في سلامة لي ولها، وإلاَّ لو سرْنا في الظلام لتحطمنا أو حطّمنا ما حولنا؛ لأنك حين تسير في الظلام إمّا أنْ تحطم ما هو أقل منك، أو يحطمك ما هو أقوى منك.
وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات، وضياء المعنويات القيم التي تحكم حركة الحياة وتعدلها، وتحميك أنْ تُحطِّم مَنْ هو أضعف منك، أو أنْ يُحطمك الأوقى منك؛ لذلك كان منطقيًا أن يقول تعالى: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الأحزاب: 43].
والمراد: من ظلمات المعاني إلى نور القيم، لا ظلمات المادة لأنني لا أستغني عنه لراحتي، فله مهمة عندي لا تقلّ عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].
نور مادي تُبصرون به الأشياء من حولكم، فلا تتخبطون بها، فتسلَم حركتكم، وهذا النور المادي يشترك فيه المؤمن والكافر، وينتفع به المطيع والعاصي، فلم يضِنّ به على أحد من خَلْقه، أما النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم، فهذا يرسله الله على يدَيْ رسُله، فإذا أخذ المؤمن النورين انتفع بهما في الدنيا، وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة؛ لذلك قال بعدها: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} [النور: 35].
ولأن الآية الكريمة بدأت بقُلْ، فمن المناسب أنْ تختم بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] يعني: اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه.
ثم يمتنُّ الله تعالى بالآية المقابلة لليل، وهي آية النهار: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} [القصص: 72] يعني: دائم لا نهاية له {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72].
تلحظ أن هاتين الآيتين على نَسَق واحد، لكن تذييلهما مختلف، مما يدلُّ على بلاغة وإعجاز القرآن، فلكلِّ معنىً ما يناسبه، ففي آية الليل قال: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] وفي آية النهار قال: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] ذلك لأن العين لا عملَ لها في الليل إنما للأذن، فأنت تسمع دون أنْ ترى، وبالأذن يتمُّ الاستدعاء.
أما في النهار وفي وجود الضوء، فالعمل للعين حيث تبصر، فهو إذن ختام حكيم للآيات يضع المعنى فيما يناسبه.
ثم يُجمل الله تعالى هاتين الآيتين في قوله سبحانه: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ}.
بعد أنْ فصَّل الله تعالى القولَ في الليل والنهار كلّ على حدة جمعهما؛ لأنهما معًا مظهر من مظاهر رحمة الله، وفي الآية ملمح بلاغي يسمونه اللف والنشر، فبعد أن جمع الله تعالى الليل والنهار أخبر عنهما بقوله: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] ثقة منه تعالى بفطْنة السامع، وأنه سيردُّ كلًا منهما إلى ما يناسبه، فالليل يقابل {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73]، والنهار يقابل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].
فاللفُّ أي: جَمْع المحكوم عليه معًا في جانب والحكم في جانب آخر، والنشرْ: ردّ كلِّ حكم إلى صاحبه.
وضربنا لذلك مثلًا بقول التيمورية:
قَلْبي وجَفْني واللسَانُ وخَالِقي ** رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِرٌ وغَفُور

فجمعتْ المحكوم عليه في الشطر الأول والحكم في الشطر الثاني، وعليك أنْ تعيد كلَّ حكم إلى صاحبه.
والليل والنهار آيتان متكاملتان، وبهما تنتظم حركة الحياة؛ لأنك إنْ لم ترتح لا تقوى على العمل؛ لأن لك طاقة، وفي جسمك مُولِّدات للطاقة، فساعةَ تتعب تجد أن أعضاءك تراخَتْ وأُجهدَتْ، وهذا إنذار لك، تُنبِّهك جوارحك لم تَعُدْ صالحًا للحركة، ولابد لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد.
والراحة تكون بقدر التعب، فربما ترتاح حين تقف مثلًا في حالة السير، فإنْ لم يُرِحْك الوقوف تجلس أو تضطجع، فإنْ زاد التعب غلبك النوم، وهو الرَّدْع الذاتي الذي يكبح جماح صاحبه إنْ تمرد على الطبيعة التي خلقها الله فيه.
ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة، فيأخذ مُنشِّطات حتى لا يغلبه النوم، ويأخذ مُهدِّئات لينام، ولو أسلم نفسه لطبيعتها، فنام حينما يحضره النوم، وعمل حينما يجد في نفسه نشاطًا للعمل لأراحَ نفسه من كثير من المتاعب.
لذلك يقولون: النوم ضيف إنْ طلبك أراحك، وإنْ طلبته أعْنتك، وحتى الآن، ومع تقدُّم العلوم لم يصلوا إلى سرِّ النوم، وكيف يأخذ الإنسان في هدوء ولُطْف دون أنْ يشعر ماهيتهَ، وأتحدى أن يعرف أحد منا كيف ينام.
لذلك جعل الله النوم آية من آياته تعالى، مثل الليل والنهار والشمس والقمر، فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار} [الروم: 23].
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ}.
تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك لا يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لأن كلَّ نداء منها له مقصوده الخاص، فالنداء في الأولى خاص بمَنْ أشركوهم مع الله وما قالوه أمام الله تعالى: {رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63].
أما الثانية، فالنداء فيها للمشركين {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين} [القصص: 65].
أما هنا، فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم. إذن: فكلمة {أين} و{شركائي} و{الذين كنتم تزعمون} قَدْر مشترك بين الآيات الثلاثة، لكن المطلوب في كل قَدْر غير المطلوب في القَدْر الآخر، فليس في الأمر تكرار، إنما توكيد في الكل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا}.
أي: أخرجنا من كل أمة نبيّها، وأحضرناه ليكون شاهدًا عليها {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} [القصص: 75] أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات، فقد اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات، فقد ضلَّوا عنهم، وهربوا منهم.
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66].
إذن: غاب شركاؤكم، وغاب شهودكم، لكن شهودنا موجودون {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [القصص: 75] يشهد أنه بلَّغهم منهج الله فإنْ قُلْتم: لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من الإنس، نردّ عليكم بأننا ما تركناكم لإغوائهم، فيكون لكم عذر، إنما أرسلنا إليكم رسلًا لهدايتكم، وقد بلّغكم الرسل.
وفي موضع آخر يقول تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيدًا} [النساء: 41].
فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلَّغت، وأعذرتَ في البلاغ، وأنك اضطهدت منهم، وأوذيت، وقد ضلَّ عنهم شركاؤهم، ولم يجدوا مَنْ يشهد لهم أو يدافع عنهم؟ عندها تسقط أعذارهم وتكون المحكمة قد تنوَّرت.
ثم يقول تعالى: {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} [القصص: 75] أي: قولوا: إن رسلنا لم يُبلِّغوكم منهجنا، وهاتوا حجة تدفع عنكم، فلما تحيَّروا وأُسقط في أيديهم حيث غاب شهداهم وحضر الشهداء عليهم {فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ} [القصص: 75].